عبد الوهاب بن علي الشتيوي

Membres

mardi 3 juin 2008

تقويم الدرس

إنّ من أوكد المهمات التي يجب أن يوليها الأستاذ عناية كبرى هي تقويم الدرس بعد إنجازه مع المتعلمين، أي أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه غيره، ولذا فمن الضوري أن يخصص حيّزًا زمنيًّا يرى فيه ردود أفعال المتعلمين نحو الدرس، إن كانت إيجابيّة أو سلبيّة، فيحتفظ يالإجابي منها ويضيف إليها ما أمكن له، ويحاول قدر جهده تجاوز السلبيات والهنات ومواطن الضعف، وعليه أن لا يشعر بأي حرج تجاه ذلك، بل إنّ من شروط العمل العلمي والتعليمي أساسًا الإنصات إلى الآخرين وأخذ ملاحظاتهم مأخذ الجدّ، فالمدرس باحتكاكه بالآخرين يجدد أساليبه التعليمية، ويعدل مبادئه التربوين، ونظرته إلى التمدرس عامة، كما عليه أن يكون واثقًا من أن التجربة مع المتعلمين والإنصات إلى ملاحظاتهم تكون مثمرة بالضرورة، بل إنّ الخبرة العلمية تحتاج إلى الخبرة العملية، واكتساب المهارات الدراسية تكون دائمًا وفق مبدإ التجربة والخطإ، والتعديل والتغيير والإصلاح، وما خاب من استشار، بل إنّ ابن المقفع يقول: "إن صاحب الرأي يزداد بالمشورة رأيًا، ثمّ يمكن للمدرس أنْ يكلف المتعلّمين بإنجاز تصوّرات أخرى لسير الدرس يرونها أصلح وأفيد، وبالتالي فهو بهذه الطريقة يصيب مجموعة من الأهداف، أولها أنّها يوفر لنفسه فرصة النظر إلى نفسه من خلال الآخرين وتقويمها، ثمّ الحرص على التجديد والإصلاح والتغيير، ويقرب المتعلمين منه ويجعل أساس العلاقة المودة والاحترام، ثمّ يشيع بين المتعلمين مبدأ ديمقراطيّة التعلم، وتوفير هامش من حرية الرأي والاعتقاد والتفكير والتعبير في فصله. ولعل كل ما نقوم به وما نستند إليه في تجربتنا التدريسية قد دعا إليه كلّ علماء التربية الحديثة، والذين أرادوا أنْ تكون المدرسة فضاءً رحبًا للحوار، وموردًا للتزوّد بالعلم والمعرفة، وتحقيق التّوازن العاطفي، والرقي الاجتماعي، وتعميق العلاقة بين المتعلم والمعلم والمؤسسة التعليمية، ونقضي على فكرة المدرسة/ السجن، وفكرة المدرس/ السجّان، وفكرة المتعلّم/ السّجين. ونقضي على البؤس المتوفر في مدارس العالم الثالث، ونحقق النقلة النوعية لتعليم الغد، مدرسة الغد تتأسّس على الحوار والاحترام والحرية والفعل المسؤول والتخلّص من التواكل والسلبيّة.

المنزع العلمي لدى الجاحظ


عبد الوهاب الشتيوي معهد الحبيب ثامر بصفاقس ـ توتس




I ـ أسس المنهج العلمي لدى الجاحظ:




تعدّدت وسائل المعرفة لدى الجاحظ وتنوعت واختلفت لبلوغ الغاية العلمية، فكان لجوءه إلى الملاحظة والمعاينة والاستقراء والحواس والتجريب والعقل والشكّ والنّقد والدّحض ورفض السّائد من الأفكار المنتشرة بين النّاس.




1 ـ الملاحظة: عُرف الجاحظ بفضوله الكبير وتطلّعه العميق إلى المعرفة وسبر أغوار المجهول، لذلك كان دقيق الملاحظة متشدّدًا في المعاينة، عميق إعمال البصر والبصيرة، حتى إنّه كان إذا وصف لك شخصًا رسمه أمامك شخصًا حقيقيًّا لا ينقصه إلا اللسان والحركة، وكان يطمئن كثيرًا إلى الملاحظة والمعاينة المباشرتين، فكل أمر "يكذّبه العيان فهو أفحش خطأً، وأسخف مذهبًا، وأدلّ على معاينة شديدة، أو غفلة مفرطة". ولم يكن سلبيًّا في معايناته ومشاهداته، أي إنّه لم يكن ينتظر المصادفات لكي يعمل نظره ويلاحظ الظاهرة، وإنما كان يفتّش عن الأمر ويسعى إليه، فيأخذ مثلاً حيوانًا ويشرّحه وينظر فيه ليلاحظ مكوّنات أعضائه ووظائفها، حتى قال: "لا تشفيني إلا المعاينة". ومن أمثلة معايناته ومشاهداته الشّخصيّة المباشرة ملاحظته خروج بيضة الطّائر من الجانب العريض وهو عكس ما اعتقد النّاس من خروج الرّأس أوّلاً، وتأمّله تأمّل سلوك النّمل واستنتاجه قائلاً: "لم نرَ ذرّةً [أي نملة] قطّ حملت شيئًا أو مضت إلى جحرها فارغةً، فتلقاها ذرّةٌ إلاّ وافقتها وأخبرتها بشيء، فدلّ ذلك على أنّها في رجوعها عن الجرادة إنّما كان لأشباهها كالرّائد لا يكذب أهله". (الحيوان، ج6، ص 18). كما وصف وصفًا دقيقًا الحمام وعلاقة الأنثى بالذّكر وكيفيّة إنشاء العشّ، ووضع البيض ورعايته والتّداول على حضانته، ثمّ رعاية الفرخ وتعهّده بالطّعام شيئًا فشيئًا إلى أنْ يشتدّ عوده فيفطمانه عنوةً حتّى يعتمد على نفسه، ويعجب الجاحظ من تحوّل تلك العاطفة الجيّاشة إلى جفوة وهجر، فيقول: "فسبحان منْ عرّفهما وألهمهما وهنّأهما وجعلهما دلالة لمن استدلّ ومخبرًا صادقًا لمن استخبر، ذلكم الله ربّ العالمين". (الحيوان). وعن الطّير أيضًا تحدّث عن الطّيور المهاجرة وعودتها إلى أوطانها بعد مضيّ وقت معيّن من السّنة، واستغرب من قدرتها على معرفة أوطانها دون تمرين أو تدريب، ولذلك فرّق بين هذه الطّيور التي تدرك المسيرة والهجرة والعودة بالفطرة، وبين الحمام الزّاجل الذي يتلقّى تعليمًا لكي يتعلم القيام بإيصال الرّسائل بين الأماكن والأشخاص، وأدرك أنّ عالمي الإنسان والحيوان متشابهان من حيث وجود المعرفة الفطريّة الحسيّة والمعرفة العقليّة المكتسبة، وهذا القول يتناغم مع آرائه الاعتزاليّة التي تقول بوجود الوحي الفطري الكائن في أصل الإنسان، والعقل المستمدّ من عمل الحسّ مع الفكر والرّؤية والبحث والتّبصّر وهو المتأتّى من التّعلّم والتّدرّب. 2 ـ الحواس: أدرك الجاحظ قيمة الحواس التي خلقها الله عز وجل لنا، فهي أدوات للمعرفة وإدراك حقائق الأشياء في الكون، وهي مجعولة لغاية: "التمييز بين المضار والمنافع والجيد والرديء والملذّ والمؤلم". و"لولا تمييز المضار من المنافع والرديء من الجيد بالعيون المجعولة لذلك، لما جعل الله عزّ وجلّ العيون المدركة". والحواس خمس وهي: البصر والسمع والشمّ والذّوق واللّمس. لكنّه لم يطمئنّ بعد ذلك إلى الحواس إيمانًا نهائيًّا مطلقًا لأنّه وجدها عاجزة عن تقديم الحقائق دائما، إضافة إلى أنّها تخدع الإنسان وتجعله يتوهّم أشياء ليست حقيقيّة بالمعنى العلمي، فيقول: "ولعمري إنّ العيون لتخطئ، وإنّ الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلاّ للذّهن، وما الاستبانة الصّحيحة إلاّ للعقل، إذ كان لزامًا على الأعضاء، وعيارًا على الحواس". ومن ذلك تأكّد أن القيمة الكبرى هي للعقل. 3 ـ العقل: لئن رأينا الجاحظ يثق بالحواس ويؤمن بدور الملاحظة وجدوى المعاينة والمشاهدة الفعليتين، إلا أنه لم يكن مطمئنًّا لهما كل الاطمئنان، فحاول إيجاد طريقة معرفية أنجع وأثبت، وسبيلاً علمية أثبت، وكانت الضّالة في "العقل" الذي بوّأه مكانة أعظم من مكانة الأداتين المعرفيتين السابقتين، فقد تأكّد له أنّ الملاحظة قد تخدع، والمعاينة قد تكون قاصرة لأن الإنسان لا يتمكّن من رؤية أيّة ظاهرة من كل الجوانب والزّوايا مهما يجتهد، وقد تكون استنتاجاته في هذه الحالة قاصرة، وقد يقع تحت طائلة الوهم، فيقول: "فلا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يريك العقل، وللأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجة". وقد حذّر الإنسان من الاغترار بالمعارف القائمة على الحسّ والمعاينة فقط، لأنّ الله عزّ وجلّ بوّأ الإنسان المكانة الكبرى وميّزه عن سائر المخلوقات بالعقل دون غيره، أما سائر المكونات فيشترك فيها مع سائر الحيوانات والبهائم، كما توجد لدى المجانين والمغفّلين، فيقول في هذا الصدد: "والذي صيّر الإنسان إلى استحقاق قول الله عزّ وجلّ: {وسخّر لكم ما في السّماء وما في الأرض جميعًا} ليس هو الصورة، وأنه خلقه من نطفة، وأن أباه خلقه من تراب، وأنه يمشي على رجليه، ويتناول حوائجه بيديه، لأنّ هذه الخصال كلّها مجموعة في البله والمجانين، والأطفال المنقوصين. والفرق الذي هو الفرق، إنمّا هو الاستطاعة، والتّمكّن من وجوه الاستطاعة، وجودة العقل والمعرفة". وبناءً على العقل بلغ الجاحظ مرحلة الشك التي هي أساس التفكير العقلي لديه، وأساس المعرفة العلمية السليمة . 4 ـ الشك: هو مرحلة يكون فيها الباحث متردّدًا بين حالتي الإثبات والنفي، أو القبول والإنكار، فلا يصرّح بحكمه إلا بعد إعمال عقله وطرح المسألة المدروسة وتقليب وجوه النظر فيها، وافتراض أمر ما ثمّ إجراء الاختبار عليه للتّأكّد من صحّته وصوابه أو خطئه وبطلانه، ويولّد الشكّ في الإنسان الباحث الحيرة والتردّد ويبعده عن السلبيّة والتّسرّع في إصدار الأحكام، ويدفعه إلى أن يكون فاعلاً في بحثه، غير مكتف بتقبل النتائج التي أقرها غيره من الباحثين، غير مسلّم بكل ما يقال من حوله، وليس الشك أمرًا سلبيًّا كما يرى بعضهم بل هو ايجابي نافع باعتباره أداة للبحث وطريقًا للمعرفة، كما أنّ له أصولاً وقواعد تجعله شكًّا علميًّا نافعًا لا شكًّا مرضيًّا قاتلاً، ولقد حثّ الجاحظ على الشكّ الفلسفي والعلمي لأنّه منْ لم يشكّ لم يظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة كما يرى الغزالي الذي عرف الله لأنّه شكّ بوجوده فبحث فأثبت وجوده بدلائل ثابتة بالنسبة إليه، لا بالوراثة والتسليم، ويقول الجاحظ: "اعرف مواضع الشكّ وحالاتها الموجبة لها، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له، وتعلم الشكّ في المشكوك فيه تعلمًا، فلو لم يكن ذلك إلاّ تعرّف التّوقّف ثم التّثبّت، لقد كان ذلك ممّا يحتاج إليه". (الحيوان، ج6، ص10). وهو متأثّر بقول أستاذه إبراهيم النظّام شيخ المعتزلة الذي يقول: "الشّاكّ أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك، ولم ينتقل أحد من اعتقاده إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما شكّ". ويرى الجاحظ أن الشكّ درجات ومراتب في القوّة والضّعف بحسب طبيعة الفرد وظروف تكوينه ونشأته ومعرفته، وبحسب ثقافته ودرجة إدراكه ووعيه، فالعوام أقل شكوكًا من الخاصة لأنهم يميلون إلى التسليم والتصديق والاطمئنان ويفزعون من الحيرة والشكّ والتفكّر، وذلك لقلة قدراتهم النقدية، وخوفهم من متاهات الشكّ حتى أنهم يصدقون ـ إضافة إلى الثقافة النقليّة ـ الخرافات والأساطير والمعتقدات الباطلة، ولكنّه كما حذّر من السلبيّة والتّصديق المباشر، حذّر من كثرة الشكّ الذي لا يصل بصاحبه إلى يقين أبدا، فالشك بالنسبة إليه إما أن يوصل إلى برّ الأمان، وبرد اليقين وإلاّ فإنه يصبح ضارًّا بصاحبه ومؤدّيًا إلى ضياع التفكير والأفكار، وقد يصل الأمر بالمرء إلى مذهب "اللاأدريّة"، وقد روى لنا في "الحيوان" حوارًا بين شخصين أحدها كثير الشكّ والآخر كثير اليقين، لكنّ الأوّل افتخر بشكّه في مواطنه الواجبة، وافتخر الثاني بيقينه في مواطنه الواجبة، أيْ أنّ الشكّ واليقين واجب كل منهما في موضعه المناسب، فيقول: "ولما قال أبو الجهم للمكي: أنا لا أكاد أشك، قال المكي: وأنا لا أكاد أوقن. ففخر عليه المكي بالشكّ في مواضع الشكّ، كما فخر عليه أبو الجهم باليقين في مواضع اليقين". واعتمد الجاحظ الشكّ في معارفه فتناول الخبر مثلاً وأعمل عقله في السند ليبين قوته أو ضعفه وناقش صدق صاحبه وتاريخيّته والتقاءه بمن رووا عنه، وقلّب المتن وأمعن النّظر في منطقيّته ومدى قربه من العقل والمعقول، وبحث عن امكانيّة إيجاد قرائن فيه تثبت غرابته وخرافيّته، فإمّا أن يحكم له بالصحّة أويحكم عليه بالبطلان، ولم يكن يخشى في البحث عن الصحّة والمنطقية اسم أحد من العلماء والمفكّرين مهما يعلو شأنه حتى أنّه وقف من أستاذه النظّام ومن الفيلسوف اليوناني أرسطو موقف النّاقد الرّافض لبعض أقوالهما، فقد عاب على النظّام قلّة تحرّيه فيما يقيس عليه، وتسرّعه في الجزم في المسائل الأصليّة قبل التّثبّت". أمّا عن أرسطو فيقول: "وقد سمعنا ما قال صاحب المنطق من قبل، وما يليق بمثله أن يخلّد على نفسه في الكتب شهادات لا يحقّقها الامتحان ولا يعرف صدقها أشباهه من العلماء". ومن بين الأمثلة التي نقد فيها أرسطو قوله إنّ طائرًا كبيرًا يسمى باليونانية "أعيتوليس" يجلب قشّ عشّه من بلاد الصين، وإذا كان الجاحظ غير قادر على التأكّد من صحة الخبر أوبطلانه فإنّه يكتفي بالقول: "وأرى جوازه موهوبًا غير مستحيل، إلا أنّ قلبي ليس يقبله [..] والله هو القادر دون خلقه، ولست أبتّ بإنكاره، وإن كان قلبي شديد الميل إلى ردّه، وهذا ممّا لا يعلمه الناس بالقياس، ولا يُعرف بالعيان الباهر، والخبر المتظاهر". وشكّك الجاحظ بالمعتقدات الفاسدة فرفض الخرافة والأخبار التي تروي الخوارق والظّواهر غير المألوفة، وتصدّى لمروّجي هذه الأباطيل لأنّهم لا خير يرجى منهم، فهم يستغلّون ضعف العامّة وجهلها وقلّة معارفها العلميّة السّليمة ويحقّقون مآرب شخصية من وراء هذه الخرافات، مثل السّحرة والمتطبّبين الذين يستغلون محن الناس وأمراضهم ليربحوا المال، وهؤلاء الدجّالون الأدعياء ـ وهم كثيرون في عصره ـ قد شكّلوا تيّارًا معارضًا للتيّار العلمي والفلسفي النّقدي الذي يُعدّ الجاحظ من أهمّ مؤسسيه. ولقد جعله إيمانه بالدور الخطير الذي يلعبه العقل متشددًا في الاستنتاجات والمقرّرات مهما تقدّم الحواس من مزايا، وجعله متشكّكاً لا يبلغه برد اليقين بسرعة، معارضًا بعض من سبقه في العلم حتى أنّ الفلاسفة اليونانيين وعلى رأسهم "أرسطو" لم يسلموا من معارضاته ونقده، فقد عاب على أرسطو تسليمه بالرّأي العامّي القائل: إنّ إناث العصافير تعيش أكثر من الذّكور دون تقديم الدّليل، بل إنّ يأخذ قوله في بعض الحيوانات فيسأل أصحاب الخبرة من المتعاملين معها، فقد وجد أرسطو يقول بوجود حيّة ذات رأسين فاتّجه إلى أحد الأعراب سكّان البوادي العارفين بأمور الحيّات والثّعابين والأفاعي وسأله "فزعم أنّ ذلك حقّ، فقلت له: فمن أيّ جهة الرّأسين تسعى؟ ومن أيّهما تأكل وتعضّ؟ فقال: فأمّا السّعي فلا تسعى، ولكنّها تسعى إلى حاجتها بالتّقلّب كما يتقلّب الصّبيان على الرّمل، وأمّا الأكل فإنّها تتعشّى بفم وتتغذّى بفم، وأمّا العضّ فإنّها تعضّ برأسيها معًا، فإذا به أكذب البريّة". (الحيوان، ج4، ص52). كما عارض أدعياء العلم في عصره لأنه رآهم يثقون ببعض الخرافات والأساطير والسّخافات التي لا تدل إلا على سذاجة في التفكير، ومنها هذا الخبر الذي يرويه في "الحيوان" ويكذّبه، فيقول: "وقال الآخرون [..] ليس في الأرض نمرة إلا وهي تضع ولدها وفي عنقه أفعى في مكان الطوق، وذكروا أنها تنهش وتعضّ، ولا تقتل، ولم أكتب هذا لتقرّ به، ولكنّه رواية أحببت أن تسمعها، ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الإنكار به، ولكن ليكن قلبك إلى إنكاره أميل". ولعلّ الجاحظ لهذا الأمر كان دقيق النّظر في الأشياء صارمًا في استخدام العقل حكمًا في العلم مهما تكن الظاهرة المدروسة صغيرة حقيرة، فيقول: "و لو وقفت على جناح بعوضة وقفة معتبر، وتأملته تأمل متفكر، بعد أن تكون ثاقب النظر، سليم الآلة، غواصًا على المعاني، لا يعتريك من المعاني إلا حسب صحة عقلك". 5 ـ التّجربة: لمّا كان الجاحظ مؤمنًا بدور العقل في إقرار الحقائق العلميّة وإثباتها، واعتماد الشكّ في كلّ الظّواهر الطّبيعيّة، وما يتّصل بها من أقوال وأفكار وأحكام، والدّعوة إلى المعاينة (الملاحظة) المباشرة، والاستناد إلى الحواس دون الاطمئنان إليها كليًّا لأنّ الحواس خطّاءة، ومعارفها نسبيّة، ولمّا لم يكن يثق بأيّة معارف قائمة على السماع، وتناقل الأقوال، فقد آمن إيمانًا كبيرًا بالتّجربة، ودورها في بلوغ الحقائق العلميّة، وتوسيع دائرة المعارف، والانتقال من الجهل إلى المعرفة، أو من العلم بالسّماع إلى العلم بالعيان والتّجريب، وإيمانه بدور التجربة متأتٍّ أيضًا من كثرة الأباطيل والخرافات والأساطير التي يروّجها الجهلة الأغبياء، والمشعوذون الأدعياء الذين يجدون في جهل النّاس ومصائبهم تحقيقًا لمصالحهم، وإيمانه بالتّجربة جعله ينقد العلماء الذين يعدّون حجّة علميّة في زمانهم من أمثال أرسطو والنظّام، فعن "أرسطو" شكّك بقوله بأنّ ولد الفيل يلد نابت الأسنان لطول مكوثه في بطن أمّه، ورأى أنّ قلبه لا يقبل مثل هذا القول لعدم تحقّقه منه بنفسه، وعن أستاذه النظّام يرى أنّه لا يستوفي الحديث عن الحيوان الذي يبحث فيه، ويتسرّع في إقرار الحكام. ومن تجارب الجاحظ أنّه كان يسقي الحيوانات الخمر ليرى نتائج ذلك، ويجري تجارب على ذكر النّعام ليعرف كيف يبتلع الجمر والحجارة والحديد والزّجاج والمسامير، ومن الأمثلة الطّريفة وضعه في برنيّة من زجاج عشرين عقربًا وعشرين فأرًا ليرى ما تفعل العقارب بالفئران، وقد دحض بالتّجربة كثيرًا من أقوال النّاس الزّائفة، مثل قول النّاس بأنّ الأفاعي تكره ريح السّذاب الشّيح، فجرّب وقال: "أمّا أنا فإنّي ألقيت على رأسها وأنفها من السّذاب ما غمرها، فلم أجد على ما قالوا دليلاً. وكان يربّي بعض الأشجار والحيوان ليراقبها مراقبةً مباشرةً دائمةً، ويصدر أحكامه عن خبرة وتجربة سليمة، كما كان يسأل أهل المهن وأصحاب الصّناعات، ليعلم منهم مقدار حقيقة ما يروّج النّاس من أقوال وأفكار، فكان يذهب إلى الفلاّحين والجزّارين والحوّائين والبحّارين ويسترشد بهم في ما كان يشغله. ولم يكن الجاحظ يحتقر أمرًا أو حيوانًا أو شخصًا يأخذ عنه المعرفة، فالحيوان مهما تكن درجة صغره فهو مؤكّد لوجود الخالق وحكمته، والشّخص مهما تكن مهنته وعلمه فيمكن الأخذ منه ثمّ إقرار ذلك أو رفضه، "والجاحظ لم يكتب ما كتب إلاّ بعد الدّرس الطّويل، والخبرة الواسعة، وبعد أنْ عانى من الأبحاث ما عانى، وما رأيك في رجل أحاط بأكثر ما كان في أيدي عصره من ثقافات ومعارف، ولم يحتقر شيئًا يدخل في باب العلم والثّقافة، ولم يستنكف أن يأخذ من صغار النّاس كما كان يأخذ من كبارهم.. كلّ ذلك في عصر كان النّاس فيه يؤثرون السّماع من الأسانيد الأخذ عن الروّاة، ويفضّلون ذلك على مطالعة الأسفار، وقراءة دواوين العلم". (عبد المنعم خفاجي، أبو عثمان الجاحظ، ص 180، 181). II ـ مقاصد المنزع العلمي لدى الجاحظ: 1 ـ المقصد العلمي: المساهمة في القضاء على المعارف القائمة على الخرافات والأباطيل والأساطير والأوهام والأفكار الهدّامة، والتي تعجز النّاس وتعطّل المجتمع عن التّزوّد بالمعارف العلميّة السلّيمة، والحثّ على تحقيق التقدّم العلمي بالأخذ من السنّة والقرآن، وتأكيد ما ورد لدى العلماء الحقيقيين من أفكار علميّة سليمة، وإقرار النّظريّات العلميّة بالاستناد إلى العقل والملاحظات والتّجارب المباشرة. 2 ـ المقصد الاجتماعي: محاربة الخرافات وأفكار المشعوذين الذين يستغلّون جهل النّاس وبؤسهم ومصائبهم، والتّخفيف من سيطرة الفكر الخرافي على المجتمع العربي الإسلامي، وتحقيق التّقدّم الاجتماعي بالعلم، والتّقريب بين الطّبقات الاجتماعيّة بالعلم، لأنّ الجاحظ وجد الخاصة مالكة للعلم، والطّبقة العامة بعيدة عنه، غير متمكنّة منه لجهلها وفقرها. 3 ـ المقصد الدّيني: الدّفاع عن المعتقدات الدّينيّة بالعلم الصّحيح والمعارف الطّبيعيّة السّليمة، وتأكيد ما جاء في القرآن و السنّة من آراء وأفكار علميّة متّصلة بعالم الطّبيعة، وتأكيد وجود الخالق من خلال مخلوقاته، وتأكيد حكمته من كلّ ما خلق، والحكمة هي مبحث هام لدى المفكّرين العرب المسلمين، وهي غاية خطيرة من غايات البحث العلمي لديهم، فالمفكر العربي المسلم يرجع الظّواهر الطّبيعيّة كلّها في النّهاية إلى الخالق. 4 ـ المقصد الفكري: الدّعوة إلى تجديد الفكر العربي الإسلامي، والكفّ عن الفكر التّقليدي والسّماعي، والإيمان بقدرة الأسلاف على تجديد الفكر، وعدم الانحصار في ما ترك الخلف، والإيمان بأنّ الفكر العلمي البشري مشروع قابل للتّجدّد باستمرار. 5 ـ المقصد الأخلاقي: يؤمن الجاحظ بمبادئ المعتزلة ومنها "الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر" ولذا فهو يرى أنّ من واجبه القيام بتنوير العقول، وتقديم الأفكار العلميّة الصّحيحة، ومحاربة الخرافة "لتحسين المعاش والمعاد"، أي إنّه يرى أنّ عليه واجبًا أخلاقيًّا لا بدّ أنْ يقوم به تجاه المجتمع.

"مغامرة رأس المملوك جابر"

"مغامرة رأس المملوك جابر"
المكوّنات الفنيّة، والواقف التّوعويّة
1 ـ تأطير الحصّة:
هذه الحصّة هي الأخيرة في برنامج عملنا المتعلّق بدراسة أثر مسرحي عربي حديث وهو مسرحيّة "مغامرة رأس المملوك جابر" للكاتب السّوري سعد الله ونوّس، وبعد أنْ كنّا قد شرحنا مجموعة من النّصوص التي مكّنتنا من تكوين فكرة شاملة عن هذا الأثر المسرحي، وعن اتّجاه ونّوس في الكتابة المسرحيّة متأثّرًا بالكاتب الألماني "برشت" ومتجاوزًا أصول المسرح اليوناني كما حدّدها "أرسطو"، كما أدركنا مظاهر التّغريب المتعلّقة بالشّكل الفنّي، ومظاهر التّسييس المتعلّقة بالجانب المضموني والدّلالات التي أراد المؤلّف تبليغها إلى القارئ عبر العرض المسرحي الطّريف، فنحن اليوم سنحاول مع بعضنا بعضًا الإلمام بكلّ المسائل المدروسة، وتحديدها في جدول بياني، ييسّر علينا عمليّة التّلخيص والتّأليف، ثمّ عمليّة المراجعة والاستعداد إلى الامتحان الوطني، وسنرسم جدول مقسّمًا إلى واديين كبيرين فنحدّد في الوادي الأوّل مكوّنات النصّ الأصلي وهو المتعلّق بالنصّ التّاريخي المستقى من سيرة الظّاهر بيبرس، ونحدّد في الوادي الثّاني مكوّنات النصّ الفرعي الذي أنتجه ونّوس ولمّح به إلى طرق قراءة ذلك النّصّ الأوّل المختلفة، ونقصد به النصّ المعاصر، فلنبدأ عملنا مع التّأكيد على ضرورة مساهمة كلّ الأفراد في العمل، واحترام مبادئ العمل الجماعي، واحترام الآراء، والإنصات الجيّد إلى التّدخّلات وإمكانيّة التّعليق عليها أو الإضافة إليها، أو تعديلها، كما يُستحسن أنْ يكون التّدخّل مشفوعًا بالشّواهد النصيّة حتّى تكون الفكرة واضحة جليّة مقنعة:
2 ـ الإنجاز الجماعي:
المكوّن
النصّ الأصلي
النصّ الفرعي
الموضوع
الصّراع بين الوزير والخليفة حول السّلطة ـ موقف العامة والخاصة من الصّراع ومن أوضاع بغداد ـ لا مبالاة جابر بالصّراع وعواقبه ـ خشية منصور من العواقب ـ موقف عامة بغداد السّلبي من الأحداث الجارية في بلدهم بغداد ـ اهتمام الرّجل الرّابع بالحدث ومطالبته العامة باتّخاذ موقف إيجابي ـ استعانة الخليفة بحكّام الولايات ـ فرض ضريبة على العامة وغلاء الأسعار ـ فرض الحراسة على بغداد ـ تخطيط الوزير للاستعانة بالفرس ـ تقديم المملوك جابر خطّة للوزير لإخراج الرّسالة من بغداد ـ وعد الوزير بتحقيق طموحاته (زمرّد والثّروة والمنتصب) ـ حلق الشّعر وكتابة الرّسالة على رأس جابر ـ إرساله إلى بلاد الفرس ـ العامة يتحاورون حول واقعهم المرير ـ مواصلة الرّجل الرّابع اختلافه عنهم ـ وصول جابر إلى بلاد الفرس ـ قراءة الرّسالة ـ تجهيز الجيش لغزو بغداد ـ قطع راس جابر كما طلب الوزير ـ الهجوم على بغداد وإحداث المأساة العامة فيها.
الزّبائن في المقهى يتناولون الشّاي والقهوة والنّرجيلة ـ في انتظار قدوم العمّ مونس الحكواتي المسامر ـ يطالبونه بسرد سيرة الظّاهر بيبرس لما فيها من بطولات وأمجاد ـ العمّ مونس يسرد قصّة المملوك جابر الذي حمل أمر قتله فوق رأسه ـ تفاعل الزّبائن 1، 2، 3 مع المملوك جابر وإعجابهم بذكائه ـ اختلاف الزّبون 4 عنهم ـ تأسفهم لمصير جابر ـ الشّعور بالملل من هذه القصّة الدّراميّة ـ مطالبتهم العمّ مونس بسيرة بيبرس اللّيلة القادمة، وإلاّ فهم لنْ يأتوا إلى المقهى مجدّدًا.
الزّمان
في القرن السّابع للهجرة.
القرن العشرين
المكان
بغداد ـ قصر الخليفة ـ ديوان الوزير ـ شوارع بغداد ـ أمام الفرن ـ في السّجن ـ في أحد بيوت البغداديين الجياع ـ في الصّحراء نحو بلاد الفرس ـ في بلاد الفرس ـ في السّجن ـ أمام المقصلة.
ـ في المقهى ـ في الرّكح.
الشّخصيّات
الخليفة ـ عبد الله أخوه ـ الوزير ـ عبد اللّطيف ـ المماليك جابر ومنصور وياسر ـ عامة بغداد: الرّجال 1، 2، 3، 4، النّساء 1، 2 ـ رجل جائع وزوجته وابنه الرّضيع ـ زمرّد ـ الحراس ـ الفرّان ـ ملك الفرس منكتم بن داود ـ ابنه هلاوون ـ السيّاف لهب.
القهوجي أبو محمّد ـ الحكواتي ـ الزّبائن 1و2و3و4.
نمط الخطاب
الإشارات الرّكحيّة ـ الحوار
السّرد ـ الإشارات الرّكحيّة ـ الحوار
المؤثّرات
المرئي والمسموع: وأصوات الجنود وحوافر الخيل وأصوات الأبواب والأسلحة وأصوات صياح أهل بغداد، ومشاهدة الممثّلين ينجزون المشاهد على الرّكح.
المرئي والمسموع: كلام الحواتي والغناء والموسيقى وتمثيل الزّبائن للمشاهد..
المواقف
ـ الصّراعات السّياسية الضيّقة بين أهل السّياسة، والانشغال بها عن إدارة شؤون الرّعيّة ـ السّياسة أداة لتحقيق المصالح الشّخصيّة (الثّروة والجنس) ـ موقف الحكّام من المحكومين (التّهميش والتّشييء وإنكار حقّهم في المشاركة السّياسيّة الفاعلة) ـ أحوال المجكومين بين الظّلم والعدل السّياسي (الدّيمقراطيّة) والعدل الاجتماعي (تحسين مستوى العيش، وعدم فرض الضّرائب المجحفة) ـ موقف العامة من الصّراعات السّياسيّة الدّائرة بين السّاسة وأصحاب النّفوذ: الغالبيّة لا تهتم ولا تكترث وتطلب السّلامة وتدّعي أنّها توجد في الخوف (شعار من يتزوّج أمّنا نناديه عمّنا وفخّار يكسر بعضه بعضًا ـ الاستعانة بالقوّات الأجنبية لتحقيق المصالح السّياسيّة ـ رفع شعار عدوّ عدوّي صديقي ـ السّياسة والذّات قبل الوطن ـ تحميل المواطن العربي مسؤوليّات جسيمة ودعوته إلى التخلّص من النّظرة الضيّقة للواقع...
التّناقض بين موقف الزّبائن 1و2و3 وموقف الزّبون 4 ـ الموقف الأوّل معجب بجابر منبهر بذكائه مدّعيًا أنّه خير ما يفعل حين يتعايش مع عصره ويحقّق مصالحه الفرديّة الضيّقة بالخديعة والكذب وبيع الذمّة والوطن والأهل وأولي الأمر ـ ثمّ حزنوا لموته واتّهموا الوزير بالخداع والكذب والتّآمر عليه ـ الحكواتي يحاول التّأثير في السّامع لجعله يتّخذ موقفًا ما (تبشيع صورة الوزير) أو مباغتة أفق انتظار المتقبّل (مأساة جابر) ـ الزّبون 4 يدعو إلى الفهم والتّبصّر وإدراك حقيقة الواقع، وحقيقة الأشياء، يدعوهم إلى اتّخاذ الموقف السّليم من جابر، وعدم التّعاطف معه، فمأساته هي مأساة الشّعب العربي المستكين.
3 ـ ملاحظة:
يمكن للأستاذ أنْ يسلّم المتعلّمين وثيقة مكتوبة بعد إنجاز العمل الجماعي
.